فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {والبادي} قرأه أبو عمرو وورش، عن نافع بإثبات الياء، بعد الدال في الوصل، وإسقاطها في الوقف، وقرأه ابن كثير بإثباتها وصلًا ووقفًا، وقرأه باقي السبعة بإسقاطها، وصلًا ووقفًا.
وقوله تعالى: في هذه الآية الكريمة {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قد أوضحنا إزالة الإشكال عن دخول الباء على المفعول في قوله: بإلحاد، ونظائره في القرآن، وأكثرنا على ذلك من الشواهد العربية في الكلام على قوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
والإلحاد في اللغة أصله: الميل، والمراد بالإلحاد في الآية: أن يميل، ويحيد عن دين الله الذي شرعه، ويعم ذلك كل ميل وحيدة عن الدين، ويدخل في ذلك دخولًا أوليًّا الكفر بالله، والشرك به في الحرم، وفعل شيء مما حرمه وترك شيء مما أوجبه. ومن أعظم ذلك: انتهاك حرمات الحرم. وقال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك احتكار الطعام بمكة، وقال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك قول الرجل: لا والله، وبلى والله، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان له فسطاطان: أحدهما: في طرف الحرم، والآخر: في طرف الحل، فإِذا أراد أن يعاتب أهله، أو غلامه فعل ذلك في الفسطاط الذي ليس في الحرم، يرى أن مثل ذلك يدخل في الإلحاد فيه بظلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر في هذه المسألة، أن كل مخالفة بترك واجب، أو فعل محرم تدخل في الظلم المذكور، وأما الجائزات كعتاب الرجل امرأته، أو عبده، فليس من الإلحاد، ولا من الظلم.
مسألة:
قال بعض أهل العلم: من هم أن يعمل سيئة في مكة، أذاقه الله العذاب الأليم بسبب همه بذلك، وإن لم يفعلها، بخلاف غير الحرم المكي من البقاع، فلا يعاقب فيه بالهم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلًا أراد بإلحاد فيه بظلم وهو بِعَدَنٍ أَبْيَن، لأذاقه الله من العذاب الأليم، وهذا ثابت عن ابن مسعود، ووقفه عليه أصح من رفعه، والذين قالوا هذا القول: استدلوا له بظاهر قوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} لأنه تعالى رتب إذاقة العذاب الأليم، على أرادة الإلحاد بالظلم فيه ترتيب الجزاء على شرطه، ويؤيد هذا قول بعض أهل العلم: إن الباء في قوله: {بإِلحاد} لأجل أن الأرادة مضمنة معنى الهم: أي ومن يهمهم فيه بإلحاد، وعلى هذا الذي قاله ابن مسعود وغيره.
فهذه الآية الكريمة مخصصة لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «ومن هم بسيئة فلم يعملها كُتبت له حسنة» الحديث، وعليه فهذا التخصيص لشدة التغليظ في المخالفة في الحرم المكي، ووجه هذا ظاهر.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: ويحتمل أن يكون معنى الأرادة في قوله: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} العزم المصمم على ارتكاب الذنب فيه، والعزم المصمم على الذنب ذنب يعاقب عليه في جميع بقاع الله مكة وغيرها.
والدليل على أن أرادة الذنب إذا كانت عزمًا مصممًا عليه أنها كارتكابه حديث أبي بكرة الثابت في الصحيح إذا الْتقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، قد عرفنا القاتل فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» فقولهم: ما بال المقتول: سؤال عن تشخيص عين الذنب الذي دخل بسببه النار مع أنه لم يفعل القتل، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» أن ذنبه الذي أدخله النار، هو عزمه المصمم وحرصه على قتل صاحبه المسلم. وقد قدمنا مرارًا أن إن المكسورة المشددة: تدل على التعليل كما تقرر في مسلك الإيماء والتنبيه.
ومثال المعاقبة على العزم المصمم على ارتكاب المحظور فيه، ما وقع بأصحاب الفيل من الإهلاك المستأصل، بسبب طير أبابيل {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [الفيل: 4] لعزمهم على ارتكاب المناكر في الحرم، فأهلكهم الله بذلك العزم قبل أن يفعلوا ما عزموا عليه، والعلم عند الله تعالى. والظاهر أن الضمير في قوله: {فِيهِ} راجع إلى المسجد الحرام، ولَكِن حكم الحرم كله في تغليظ الذنب المذكور كذلك. والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}.
انتقلتْ بنا الآيات إلى موضوع جديد: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ } [الحج: 25] بصيغة الماضي، لأن الكفر وقع منهم فعلًا {وَيَصُدُّونَ } [الحج: 25] بصيغة المضارع، والقياس أن نقول: كفروا وصَدُّوا، لَكِن المسألة ليست قاعدة ولا هي عملية آلية؛ لأن الصدَّ عن سبيل الله ناشيء عن الكفر وما يزال صدُّهم مستمرًّا.
ومعنى {عَن سَبِيلِ الله } [الحج: 25] أي: عن الجهاد {والمسجد الحرام } [الحج: 25] لأنهم منعوا المسلمين من دخوله، وكان في قبضتهم وتحت سيطرتهم، وهذا ما حدث فعلًا في الحديبية حينما اشتاق صحابة رسول الله إلى أداء العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه، فلما ذهبوا منعهم كفار مكة، وصدُّوهم عن دخوله.
{والمسجد الحرام } [الحج: 25] كلمة حرام يُستفاد منها أنه مُحرَّم أنْ تفعل فيه خطأ، أو تهينه، أو تعتدي فيه. وكلمة الحَرَام وصف بها بعض المكان وبعض الزمان، وهي خمسة أشياء: نقول: البيت الحرام وهو الكعبة، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، ثم المشعر الحرام. وهذه عبارة عن دوائر مركز الكعبة، هذه أماكن، ثم الخامس وهو زمن: الشهر الحرام الذي قال الله فيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ } [الحج: 25]
وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه؛ لأنه رَبٌ رحيم بخَلْقه يريد أن يجعل لهم فرصة لِستْر كبريائهم، والحدّ من غرورهم، وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات التي كانت تُذْكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب، حتى أن كِلاَ الفريقين يريد أنْ يُفني الآخر، وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها، لَكِن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والانسحاب.
لذلك جعل الله سبحانه لهذه الأماكن والأزمنة حُرْمة لتكون ستارًا لهذا الكبرياء الزائف، ولهذه العزة البغيضة. وكل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان، فحرَّم الله القتال في الأشهر الحرم، حتى إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام، فأنقذ الضعيف من قبضة القوى دون أنْ يجرح كبرياءه، وربما هزّ رأسه قائلًا: لولا الشهر الحرام كنت فعلتُ بهم كذا وكذا.
فهذه- إذن- رحمة من الله بعباده، وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويَحْقِن دماءهم.
وما أشبه كبرياءَ العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجيْن تخاصما على مَضَض، ويريد كل منهم أنْ يأتي صاحبه، لَكِن يمنعه كبرياءه أن يتنازل، فجلس الرجل في غرفته، وأغلق الباب على نفسه، فنظرتْ الزوجة، فإذا به يرفع يديه يدعو الله أنْ تُصالحه زوجته، فذهبتْ وتزيَّنَتْ له، ثم دفعت الباب عليه وقالت- وكأن أحدًا يُجبرها على الدخول- مُوديَّانِي فين يا أم هاشم.
وكذلك، جعل في المكان محرمًا؛ لأن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة أشهر: ثلاثة سرد وواحد فرد، الفرد هو رجب، والسرد هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
فحرَّم أيضًا القتال في هذه الأماكن ليعصم دماء الخَلْق أنْ تُراقَ بسبب تناحر القبائل بالغِلِّ والحِقْد والكبرياء والغرور.
يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافرين} [البقرة: 191].
فلعلَّهم حين تأتي شهور التحريم، أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب، فيدركون لذة السلام وأهمية الصلح، فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب، فسُعَار الحرب يجُرُّ حربًا، ولذة السلام وراحة الأمن والشعور بهدوء الحياة يَجُرُّ مَيْلًا للتصالح وفضّ مثل هذه المنازعات بالطرق السلمية.
والمتأمل في هذه الأماكن التي حرَّمها الله يجدها على مراتب، وكأنها دوائر مركزها بيت الله الحرام وهو الكعبة، ثم المسجد الحرام حولها، ثم البلد الحرام وهي مكة، ثم المشعر الحرام الذي يأخذ جزءًا من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة فليست كما يظنُّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه، الكعبة هي المكان، أما هذا البناء فهو المكين، فلو نقضْتَ هذا البناء القائم الآن فمكان البناء هو البيت، هذا مكانه إنْ نزلْتَ في أعماق الأرض أو صعدْتَ في طبقات السماء.
إذن: فبيت الله الحرام هو هذه البقعة من الأرض حتى السماء، أَلاَ ترى الناس يُصَلُّون في الأدوار العليا، وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟ إنهم يواجهون جَوَّ الكعبة، لا يواجهون الكعبة ذاتها، لماذا؟ لأن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء الله.
ثم يلي البيت المسجد، وهو قطعة أرض حُكرت على المسجدية، لَكِن هناك مسجد بالمكان حين تقيمه أنت، وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الآن يسمى مسجد بالمكان، أو مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع فهو في هذه الحالة مسجد، قالوا: ولو امتد إلى صنعاء وتواصلتْ الصفوف فكلُّه مسجد.
نعود إلى ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية، فقد صدَّ الكفار المسلمين عن بيت الله الحرام وهم على مَرْمى البصر منه، فاغتاظ المسلمون لذلك، ورأى بعضهم أن يدخل مكة عُنْوة ورَغْمًا عنهم.
لَكِن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سِرٌّ بينه وبين ربه عز وجل، فنزل على شروطهم، وعقد معهم صُلْحًا هو صلح الحديبية الذي أثار حفيظة الصحابة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، فقال لرسول الله: يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ قال صلى الله عليه وسلم: «بلى» قال: أليسوا هم على باطل؟ قال: فلِمَ نُعْطِى الدنيّة في ديننا؟.
وكان من بنود هذا الصلح: إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا ذهب مسلم إليهم لا يردونه إلى المسلمين.
وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة- رضوان الله عليها- موقف عظيم في هذه الشدة، ورَأْي سديد ردَّ آراء الرجال إلى الرُّشْد وإلى الصواب، وهذا مما نفخر به للمرأة في الإسلام، ونردّ به على المتشدِّقين بحقوق المرأة.
فلما عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فُسْطاطه مُغْضبًا فقال لأم سلمة: «هلك المسلمون يا أم سلمة، لقد أمرتهم فلم يمتثلوا» يعني امرهم بالعودة دون أداء العمرة هذا العام.
فقالت السيدة أم المؤمنين: يا رسول الله، إنهم مكروبون، فقد مُنِعُوا عن بيت الله وهم على مَرْأىً منه، لَكِن اذهب يا رسول الله إلى ما أمرك به ربك، فافعل فإذا رأوْك فعلْتَهُ علموا أن الأمر عزيمة- يعني لا رجعةَ فيه- وفعلًا أخذ رسول الله بهذه النصيحة، فذهب فحلق، وذبح هدية وفعل الناس مثله، وانتهت هذه المسألة.
لَكِن قبل أنْ يعودوا إلى المدينة شاءتْ أرادة الله أنْ يخبرهم بالحكمة في قبول رسول الله لشروط المشركين مع أنها شروط ظالمة مُجْحفة:
أولًا: في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته، وأنه أصبح مساويًّا لهم، وهذا مكسب في حَدِّ ذاته.
ثانيًّا: اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات، وهذه الفترة أعطتْ المسلمين فرصة كي يتفرغوا لاستقبال الوفود ونَشْر دين الله.
ثالثًا: كان في إمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أنْ يدخلهم مكة رَغْمًا عن أهلها، وكان في مقدوره أن يقتلهم جميعًا، لَكِن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم ولا يعرفهم أحد؟ إنهم وسط هؤلاء الكفار، وسينالهم ما ينال الكفار، ولو تميَّز المؤمنون من الكفار أو خرجوا في جانب لأمكن تفاديهم.
اقرأ قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25].
ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام: {الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ } [الحج: 25] أي: جميعًا {سَواء العاكف فِيهِ والباد } [الحج: 25] العاكف فيه يعني: المقيم، والباد: القادم إليه من خارج مكة، ومعنى {سَواء } [الحج: 25] يعني: هذان النوعان متساويان تمامًا.
لذلك نقول للذين يحجزون الأماكن لحسابهم في بيت الله الحرام خاصة، وفي بيوت الله عامة: أريحوا أنفسكم، فالمكان محجوز عند الله لمن سبق، لا لمن وضع سجادته، وشغل بها المكان.
وقد دَعَتْ هذه الآية: {سَواء العاكف فِيهِ والباد } [الحج: 25] البعض لأنْ يقول: لا يجوز تأجير البيوت في مكة، فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب.
وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين، وأرض مكة كانت للجميع حين كان المكان حُرًا يبني فيه من أراد، أمَا بعد أن بنى بيتًا، وسكنه أصبح مكينًا فيه، لا يجوز لأحد دخوله إلا بإذنه وأرادته.
وقد دار حول هذه المسألة نقاش بين الحنظلي في مكة والإمام الشافعي، حيث يرى الحنظلي أنه لا يجوز تأجير البيوت في مكة؛ لأنها حسب هذه الآية للجميع، فردَّ عليه الشافعي رضي الله عنه: لو كان الأمر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين: {الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [الحشر: 8].
فنسب الديار إليهم. ولَمَا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مكة: «وهل ترك لنا عقيل من دار أو من ربع؟» وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا، فهذا دليل على ملكيتهم لها. لذلك رجع الحنظلي إلى رأي الشافعي.
هذا مع أن الآية تعني البيت فقط، لا مكة كلها، فما كان الخلاف ليصل إلى مكة كلها.
ثم يقول تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] الإلحاد قد يكون في الحق الأعلى، وهو الإلحاد في الله عز وجل، أما هنا فيُراد بالإلحاد: الميْل عن طريق الحقِّ، وقوله: {بِظُلْمٍ } [الحج: 25] الظلم في شيء لا يسمو إلى درجة الكفر، والإلحاد بظلم إنْ حدث في بيت الله فهو أمر عظيم؛ لأنك في بيت ربك الكعبة.
وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية، مجرد الأرادة هنا تُعَدُّ ذنبًا؛ لأنك في مقام يجب أنْ تستشعر فيه الجلال والمهابة، فكما أعطى الله لبيته مَيْزة في مضاعفة الحسنات، كذلك عظَّم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته، فتنبَّه لهذه المسألة.
حتى في أمثال أهل الريف يقولون: تيجي في بيت العالم وتسكر يعني: السُّكْر يُتصوَّر في بيت أحد العصاة، في بيت فاسق، في خمارة، لَكِن في بيت عالم، فهذا شيء كبير، وجرأة عظيمة. لماذا؟
فللمكان حُرْمة بحُرمة صاحبة، فإذا كان للمكان حُرْمة بحُرْمة صاحبه، والبيت منسوب إلى الله، فأنت تعصي ربك في عُقْر داره، وأيْ جرأة أعظم من الجرأة على الله؟
وهذه خاصية للمسجد الحرام، فكُلُّ المساجد في أي مكان بيوت الله، لَكِن هناك فَرْق بين بيت الله باختيار الله، وبيت الله باختيار عباد الله؛ لذلك جُعل بيتُ الله باختيار الله البيت الحرام هو القِبْلة التي تتجه إليها كل بيوت الله في الأرض.
فما عاقبة الإلحاد في بيت الله؟ {نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائمًا وأبدًا، والإذاقة أشد الإدراكات تأثيرًا، وذلك هو العذاب المهين، والذوق هو الإحساس بالمطعوم شرابًا كان أو طعامًا، إلا أنه تعدى كل مُحسٍّ به، ولو لم يكن مطعوما أو مشروبًا، ويقول ربنا عز وجل: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49].
أي: ذق الإهانة والمذلة، لا مما يُطعم أو مما يُشرب، ولَكِن بالإحساس، فالإذاقة تتعدى إلى كل البدن، فالأنامل تذوق، والرِّجْل تذوق، والصدر يذوق، والرقبة تذوق. وهذا اللون من إذاقة الذل والإهانة في الدنيا لهؤلاء مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب الله.
وعذاب الآخرة سيكون مهولًا، والعذاب هو إيلام الحس. إذا أحببت أن تديم ألمه، فأبْقِ فيه آلة الإحساس بالألم. اهـ.